المعتمدات الحساسة في ادارة الدولة

المعتمدات الحساسة في ادارة الدولة

د. طورهان المفتي

جرت العادة في الحياة اليومية القيام بتبسيط الامور قدر الامكان مما يجعل من مسارات الحياة سهلة اكثر وذات مقبولية افضل ، طبعا هذا لا يعني تسطيح الامور والقضايا المهمة في حياة الفرد فقد قيل سابقاً (معظم النار من مستصغر الشرر) بالتالي ليست كل عملية تصغير للامور مسألة ايجابية فقد تكون نتيجة تصغير وتسطيح قضية ما تؤدي الى حدوث نتائج كارثية لا يمكن انهاءها بسهولة فالقضايا ذات الحساسية يجب ان تؤخذ بحجمها الطبيعي لانها حساسة وتؤثر في السلوكيات اليومية .


ادوارد نورتن لورانس
يعتبر العالم الاميركي (ادوارد نورتن لورانس ) (١٩١٧-٢٠٠٨) واحداً من العلماء الافذاذ في الرياضيات والتنبؤات الجوية ( الانواء الجوية) وقد عمل هذا الشخص لسنوات في معادلات رياضية و موديلات حسابية لغرض توفير وانتاج تنبؤات منطقية من خلال الرياضيات حول الانواء الجوية .
في منتصف القرن الماضي توصل (ادوارد) الى معادلة رياضية ممكن من خلالها التنبوء بالظروف الجوية من الامطار والرياح وما شاكل ذلك ، لكن بالرغم من ان معاملات ( parameters)هذه المعادلة كانت صحيحة كأساس للحسابات إلا ان مخرجات المعادلة كانت كارثية علميًا ،فقد اظهرت المعادلة وجود امطار وثلوج غزيرة في الصيف ووجود اعاصير في غير وقته، مما قاد ادوارد الى احدى الاحتمالين ، فاما معاملات المعادلة خاطئة او ان تكون الارقام والمتغيرات خاطئة، بعد تفكير طويل ودراسة المعادلة الرياضية توصل (ادوارد) الى ان الخطأ الذي اقترفه هو تقريب الارقام في اجزاء من العشرة الالف من بعد الفارزة ( يعني مثلا تقريب خمسة اجزاء من عشرة الالف الى ستة اجزاء من عشرة الالف وهو رقم ممكن تجاهله لصغره المتناهي في الحياة اليومية وبتعبير اقرب يعني تقريب خمسة دنانير من العشرة الالف دينار الى ستة دنانير وهذا لايعني شيء في التعامل اليومي) فمن خلال هذا التقريب البسيط ( معتمد حساس) ولعدة مرات كانت النتيجة كارثية وخاطئة مائة بالمائة.هذا الاكتشاف جعل من ( ادوارد) احد رواد نظرية ( تاثير الفراشة) ونظرية الفوضى ضمن المعتمدات الرياضية وليطلق مقولته الشهيرة ( المعتمدات الحساسة للشروط الابتدائية)
(Sensitive dependence on initial conditions)
فممكن حسب هذه النظرية خلق فوضى غير ارادية من خلال عدم التعامل السليم مع المعتمدات الحساسة بسبب صغر قيمة هذه المعتمدات والتي نراها في حياتنا اليومية انها قابلة للتجاهل .

العراق والمعتمد الحساس داخلياً .
سنأخذ في هذا المضمار موضوع واحد فقط من عشرات المواضيع الداخلية في البلاد والتي تم تجاهل المعتمدات الحساسة لها لتخلق مشاكل مجتمعية واقتصادية لا نهاية لها في الوقت الحالي.
من بعد احداث ٢٠٠٣ وما رافق تلك الاحداث من تغيرات وتغييرات كبيرة جداً في كل مرافق الادارة في البلاد سواءاً كانت هذه التغييرات من خلال دراسة معمقة او من خلال قراءات عاطفية للاجواء العراقية ، وكان ما كان من تحرك كبير باتجاه فتح جامعات حكومية وكليات اهلية في مختلف محافظات واقضية العراق بحيث جعل من هذه الحالة وجود اكثر ٣٥ جامعة حكومية ( على حساب ١٥ جامعة قبل ٢٠٠٣ ) وكذلك ٦٥ جامعة وكلية اهلية ( على حساب ١٠ كليات جامعة اهلية قبل ٢٠٠٣) و ١٦ جامعة حكومية مضافا اليها ١٩ جامعة ومؤسسة تعليمية اهلية وذلك في اقليم كردستان العراق ليكون المجموع الكلي اكثر من ١٣٠ جامعة وموسسات تعليمية حكومية واهلية في العراق عامة. كان المعتمد الحساس في هذا المضمار عدد الخريجين المتزايد سنوياً وضمن اختصاصات اتخمت بها البلاد ، لم يبال القائمين على الامر بهذه المعتمدات الحساسة كون الموضوع الاساس في هذا التوسع توفير الشهادة باسهل الطرق للراغبين وايضاح الكسب المادي بالنسبة للقطاعات الخاصة والاهلية ، ليتولد لدينا تاثير الفراشة في ابهى صوره وليكون لدينا الالاف والالاف من الخريجين والذين يحق لهم بكل تاكيد ايجاد فرصة عمل لهم بعد ان قضوا سنوات في استحصال الشهادة، وعلى هذا الاساس تقف الدولة العراقية الان قهقرياً امام هذه المعضلة في اجواء متلبدة فالدولة العراقية لا تقدر على تقليص وتعديل الاختصاصات والمؤسسات بسبب التاثير الاجتماعي وبسبب اللوبيات المختلفة المؤثرة في الساحة العراقية ولا تقدر ان توفر فرص عمل للجميع . فنظرية الفوضى في هذا المضمار حاضرة في كل جزئية من جزئيات هذا الملف .
ما هو الحل؟
الحل هو قرارات جريئة وتقييمات اجرء من قبل وزارتي التخطيط والتعليم العالي لهذه المؤسسات التعليمية ونوعية الاختصاصات وتقليص هذه المؤسسات وبالمقابل فتح الابواب لانتاج اختصاصات ضمن الحلقات الوسطى والتي اصبحت نادرة في الدولة العراقية مقارنة مع كمية حاملي شهادة البكالوريوس وليكون تتمة هذه القرارات الجريئة قيام وزارة المالية بتوفير فرص عمل لما سبق منهم من الخريجين القدامى بشتى الطرق الادارية والمالية .

العراق والمعتمد الحساس خارجياً
لا يختلف اثنان ان العراق بعد ٢٠٠٣ عراق حديث التشكيل بالتالي الدولة هشة في كثير من مجالاتها وهي اي هذه الدولة تحتوي على الكثير من الخواصر الرخوة التي ممكن ان تستغل من قبل اطراف خارجية والتي ممكن من خلالها تعثر البلاد .مما يعني ان اي قرار يتخذه العراق خارجيا يجب ان يراعي فيه الاطراف الصديقة قبل الاطراف المتضادة لان العراق في غنىً ان يخلق لنفسه دولاً متضادة جديدة مضافاً الى ما موجود حاليًا (ان مسألة تصفير المشاكل بين الدول المتضادة وغيرها غير ممكن عملياً ففي نهاية المطاف نظرية تصفير المشاكل فشلت في كل دولة اتخذتها مساراً لها وكانت اخرها تركيا في فترة احمد داود اوغلو والذي عمل على التصفير لينتج لديه مشاكل اكبر من ما كان موجوداً وليعطي نظرة محبطة جدًا عن شخصه وعن مرحلته) . لا يختلف اثنان ايضاً بمدى العلاقة المتينة بين العراق من جهة وايران من جهة اخرى وكذلك تمتن العلاقة العراقية القطرية والعراقية الروسية ، حيث ان هذه الدول الثلاثة هم من عمالقة انتاج الغاز العالمي ( وممكن اضافة السعودية الى هذه الدول ايضاً الى حد ما حسب كمية الانتاج والاحتياطي ) ، الان وفي جولة التراخيص الاخيرة في البلاد توجهت الحكومة العراقية نحو انتاج الغاز ( وهو توجه سليم رغم تأخره) بالتالي هذا يعني ان العراق بعد سنوات قليلة سوف يدخل نادي دول انتاج الغاز ، فهل تدارس القائمون على الامر تاثير هذا المعتمد الحساس على العلاقات الدولية للعراق مع الدول السابق ذكرهم ايجابياً كانت ام سلبيًا وهل يسمح هذه الدول بمشاركة حصصهم مع دولة جديدة تدخل النادي ( كون هذه الدول هي دول اقليمية) ، وهل نحن امام تشجيع منتج من قبل هذه الدول وبقية الدول المنتجة للغاز ام امام امتعاضهم المخفي وهل بالامكان توفير سوق لهذا المنتج . صحيح ان العراق بحاجة ماسة للغاز في شتى مجالات الحياة اليومية وعلى هذا الاساس لابد للدولة من اتخاذ اجراءات كفيلة بعدم استحداث دول وارادات متضادة جديدة مع العراق والعمل وفق المعتمدات الحساسة في هذا الملف، بغير ذلك فاننا سوف نشهد منعطفات جديدة للبلاد بعد سنوات قليلة من بدء العراق بانتاج الغاز التجاري . لتكون الدولة مرة اخرى في مواجهة (تاثير الفراشة)